الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فإن العزة تتضمن القوة، ولله القوة جميعًا، يقال: عز يعز- بفتح العين- إذا اشتد وقوى، ومنه الأرض العزاز: الصلبة الشديدة، وعز يعز بكسر العين إذا امتنع ممن يرومه وعز يعز بضم العين إذا غلب وقهر، فأعطوا أقوى الحركات وهى الضمة- لأقوى المعاني وهو الغلبة والقهر للغير وأضعفها وهى الفتحة لأَضعف هذه المعاني وهو كون الشيء في نفسه صلبًا، ولا يلزم من ذلك أَن يمتنع عمن يرومه والحركة المتوسطة وهى الكسرة للمعنى المتوسط وهو القوى الممتنع عن غيره، ولا يلزم منه أن يقهر غيره ويغلبه، فأعطوا الأقوى للأقوى والأضعف للأضعف والمتوسط للمتوسط. ولا ريب أن قهر المريد عما يريده من أقوى أوصاف القادر، فإِن قهره عن إرادته وجعله مريدًا كان أَقوى أنواع القهر، والعز ضد الذل، والذل أصله الضعف والعجز فالعز يقتضى كمال القدرة والعزة، ولهذا يوصف به المؤمن ولا يكون ذمًا له بخلاف الكبر. قال رجل للحسن البصرى: إنك متكبر. فقال: لست متكبرًا، ولكنى عزز. وقال تعالى: {وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينِ} [المنافقون: 8]، وقال ابن مسعود: ما زلنا أعزة الإسلام منذ أسلم عمر. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم أعز بأحد هذيْنِ الرَّجُلَيْنِ: عُمَرَ بْنَ الْخَطَّاب، أَو أَبِى جَهْل بْن هِشَام»، وفى بعض الآثار: إِن الناس بطلبون العزة في أبواب الملوك، ولا يجدونها إِلا في طاعة الله عز وجل. وفى الحديث: «اللَّهُمَّ أَعِزَّنَا بِطَاعَتِكَ وَلا تُذِلَّنَا بِمعْصِيتكَ» وقال بعضهم: من أَراد عزًا بلا سلطان، وكثرة بلا عشيرة، وغنى بلا مال، فلينتقل من ذل المعصية إلى عز الطاعة. فالعزة من جنس القدرة والقوة وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِى خَيْر وَأَحَبُّ إِلَى اللهُ مَنَ الْمُؤْمِنِ الضعيف، وفى كل خير». فالقدرة إن لم يكن معها حكمة بل كان القادر يفعل ما يريده بلا نظر في العاقبة، ولا حكمة محمودة يطلبها بإرادته ويقصدها بفعله، كان فعلة فسادًا كصاحب شهوات الغى والظلم، الذي يفعله بقوته ما يريده من شهوات الغى في بطنه وفرجه ومن ظلم الناس، فإِن هذا وإن كان له قوة وعزة لكن لما لم يقترن بها حكمة كان ذلك معونة على شره وفساده. وكذلك العلم كماله أن نقترن به الحكمة وإلا فالعالم الذي لا يريد ما تقتضيه الحكمة وتوجبه، بل يريد ما يهواه، سيفه غاوٍ، وعلمه عون له على الشر والفساد هذا إذا كان عالمًا قادرًا مريدًا له إِرادة من غير حكمة، وإِن قدر أنه لا إرادة له فهذا أولًا ممتنع من الحى، فإن وجود الشعور بدون حب ولا بغض ولا إِرادة ممتنع كوجود إرادة بدون الشعور، وأما القدرة والقوة إذا قدر وجودها بدون إرادة فهى كقوة الجماد، فإن القوة الطبيعية التي هي مبدأُ الفعل والحركة لا إِرادة لها وقد قال بعض الناس: إِن للجماد شعورًا يليق به واحتج بقوله تعالى: {وَإِنّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَشّقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ} [البقرة: 74]، وبقوله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضّ} [الكهف: 77] وهذه المسألة كبيرة تحتاج إلى كلام يليق بهذا الموضع. والمقصود أَن العلم والقدرة المجردين عن الحكمة لا يحصل بهما الكمال والصلاح وإِنما يحصل ذلك بالحكمة معها، واسمه سبحانه الحكيم يتضمن حكمته في خلقه وأَمره في إِرادته الدينية الكونية وهو حكيم في كل ما خلقه وأَمر به.والناس في هذا المقام أَربع طوائف: الطائفة الأُولى الجاحدة لقدرته وحكمته فلا يثبتون له تعالى قدرة ولا حكمة، كما يقوله من ينفى كونه تعالى فاعلًا مختارًا وأَن صدور العالم عنه بالإِيجاب الذاتى لا بالقدرة والاختيار وهؤلاء يثبتون حكمة يسمونها عناية إلهية، وهم من أشد الناس تناقضًا، إِذ لا يعقل حكيم لا قدرة له ولا اختيار، وإِنما يسمون ما في العالم من المصالح والمنافع عناية إلهية من غير أَن يرجع منها إِلى الرب تعالى إِرادة ولا حكمة وهؤلاءِ كما أَنهم مكذبون لجميع الرسل فإِنهم مخالفون لصريح العقل والفطرة، قد نسبوا الرب تعالى إِلى أَعظم النقص، وجعلوا كل قادر مريد مختار أَكمل منه وإِن كان من كان، بل سلبهم القدرة والاختيار والفعل عن رب العالمين شر من شرك عباد الأَصنام به بكثير، وشر من قول النصارى أَنه- تعالى عن قولهم- ثالث ثلاثة وأَن له صاحبة وولدًا، فإِن هؤلاءِ أَثبتوا له قدرة وإِرادة واختيارًا وحكمة، ووصفوه مع ذلك بما لا يليق به. وَأَما أُولئك فنفوا ربوبيته وقدرته بالكلية وأَثبتوا له أَسماءَ لا حقائق لها ولا معنى.والطائفة الثانية أقرت بقدرته وعموم مشيئته للكائنات وجحدت حكمته وما له في خلقه من الغايات المحمودة المطلوبة له سبحانه التي يفعل لأَجلها ويأْمر لأَجلها، فحافظت على القدر وجحدت الحكمة، وهؤلاءِ هم النفاة للتعليل والأَسباب والقوى والطبائع في المخلوقات، فعندهم لا يفعل لشيء ولا لأجل شيء، وليس في القرآن عندهم لام تعليل ولا باءُ تسبب، وكل لام توهم التعليل فهى عندهم لام العاقبة وكل باءٍ تشعر بالتسبب فهى عندهم باءُ المصاحبة وهؤلاء سلطوا نفاة القدر عليهم بما نفوه من الحكمه والتعليل والأسباب فاستطالوا عليهم بذلك، ووجدوا مقالًا واسعًا بالشناعة فقالوا وشنعوا، ولعمر والله إنهم لمحقون في أَكثر ما شنعوا عليهم به، إِذ نفى الحكمة والتعليل والأَسباب له لوازم في غاية الشناعة، والتزامها بمكابرة ظاهرة لعامة عند عامة العقلاءِ.والطائفة الثالثة أقرت بحكمته أثبتت الأَسباب والعلل والغايات في أَفعاله وأَحكامه، وجحدت كمال قدرته، فنفت قدرته على شطر العالم وهو أَشرف ما فيه من أَفعال الملائكة والجن والإِنس وطاعاتهم، بل عندهم هذه كلها لا تدخل تحت مقدوره تعالى، ولا يوصف بالقدرة عليها ولا هي داخلة تحت مشيئته ولا ملكه، وليس في مقدوره عندهم أَن يجعل المؤمن مؤمنًا والمصلى مصليًا والموفق موفقًا، بل هو الذي جعل نفسه كذلك. وعندهم أَن أَفعال العباد من الملائكة والجن والإِنس كانت بغير مشيئته واختياره فتعالى الله عن قولهم، وهؤلاءِ سلطوا عليهم نفاة الحكمة والتعليل والأَسباب فمزقوهم كل ممزق ووجدوا طريقًا وسيعًا إلى الشناعة عليهم، وأَبدوا تناقضهم فقالوا وشنعوا، ورموهم بكل داهية. أو نفى قدرة الرب تعالى على شطر المملكة له لوازم في غاية الشناعة والقبح والفساد، والتزامها مكابرة ظاهرة عند عامة العقلاءِ، ونفى التزامها تناقض بين، فصاروا بذلك بين التناقض- وهو أحسن حالهم- وبين التزام تلك العظائم التي تخرج عن الإِيمان، كما كان نفاة الحكمة والأَسباب والغايات كذلك.فهدى الله الطائفة الرابعة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشاءُ إلى صراط مستقيم، فآمنوا بالكتاب كله، وأقروا بالحق جميعه، ووافقوا كل واحدة من الطائفتين على ما معها من الحق، وخالفوهم فيما قالوه من الباطل، فآمنوا بخلق الله وأَمره بقدرته وشرعه وأَنه سبحانه المحمود على خلقه وأَمره، وأَنه له الحكمة البالغة والنعمة السابغة، وأَنه على كل شيء قدير: فلا يخرج عن مقدوره شيء من الموجودات أَعيانها وأَفعالها وصفاتها، كما لا يخرج عن علمه، فكل ما تعلق به علمه من العالم تعلقت به قدرته ومشيئته. وآمنوا مع ذلك بأَن له الحجة على خلقه، وأنه لا حجة لأحد عليه بل لله الحجة البالغة وأَنه لو عذب أَهل سماواته وأَهل أَرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، بل كان تعذيبهم منه عدلًا منه وحكمة لا بمحض المشيئة المجردة عن السبب والحكمة كما يقوله الجبرية، ولا يجعلون القدر حجة لأَنفسهم ولا لغيرهم، بل يؤمنون به ولا يحتجون به ويعلمون أَن الله سبحانه أَنعم عليهم بالطاعات وأَنها من نعمته عليهم وفضله وإِحسانه، وأَن المعاصى من نفوسهم الظالمة الجاهلة، وأَنهم هم جناتها وهم الذين اجترحوها، ولا يحملونها على القضاء والقدر مع علمهم بشمول قضائه وقدره لما في العالم من خير وشر وطاعة وعصيان وكفر وإِيمان، وأَن مشيئة الله سبحانه محيطة بذلك كإحاطة علمه به، وأَنه لو شاءَ أَلا يعصى لما عصى وأَنه سبحانه أَعز وأَجل من أَن يعصى قسرًا، والعباد أَقل من ذلك وأَهون، وأَنه ما شاءَ الله كان وكل كائن فهو بمشيئته، وما لم يشأْ لم يكن، وما لم يكن فلعدم مشيئته، فله الخلق والأَمر وله الملك والحمد وله القدرة التامة والحكمة الشاملة البالغة. فهذه الطائفة هم أَهل البصر التام، والأولى لهم العمى المطلق، والثانية والثالثة كل طائفة منهما لهم عين عمياءُ، ومع هذا فسرى العمى من العين العمياءِ إلى العين الصحيحة فأَعماها ولا يستكثر تكرار هذا الكلمات من يعلم شدة الحاجة إليها وضرورة النفوس إِليها، فلو تكررت فالحاجة إليها في محل الضرورة. والله المستعان. اهـ.
|